| 0 التعليقات ]

بقلم / حسن حامد مشيكة مساعد أمين الشؤون العلمية جامعة الخرطوم نظرات تمهيدية دأبت مدينة النهود حاضرة قبائل (حمر) ذات التاريخ التليد والعريق تضرب أروع الأمثلة في التعايش السلمي بين مختلف قبائل السودان. فبجانب قبائل حمر تعيش في النهود منذ العهد التركي المصري في السودان قبائل الشايقية والجعليين والدناقلة وغيرهم من القبائل، هاجرت إليها من شمال السودان، وكذلك جاءت بعض القبائل من وسط السودان بغرض العمل في مجال التجارة، وأفراد شماليون آخرون جاءوا من إقليم بحر الغزال هرباً من أن يلحق بهم ضرر نسبةً لما كانوا يخشونه من عواقب ممارستهم لتجارة الرقيق، فاحتموا بمدينة النهود. وكذلك وفدت إليها قبائل من جنوب وشرق كردفان، ومن غرب السودان، بل من بعض الدول المجاورة للسودان من ناحية الغرب. كل هؤلاء سكنوا وتعايشوا مع قبيلة حمر صاحبة الدار رغم انهم لم ينصهروا فيها بل تأثرت هذه القبائل لحد كبير بالثقافة الحمرية وتمازجت ثقافتها مع المورثات المحلية، واثر هذا التمازج الثقافي على النسيج الاجتماعي في المدينة وشكل لوحة صارخة الألوان يمكن وصفها بأنها تشابه قطعة الفسيفساء. { لقد كان يتزعم قبائل حمر منذ العهد التركي الشيخ (مكي أبو المليح) القائد الفذ ذو الشخصية الكارزمية الذي استطاع أن يوحد قبائل حمر، وأن يسوسهم بكفاءة واقتدار، وكان مكي نموذجاً للقائد المحنك الذي شهدت قبائل حمر في عهده الازدهار والمنعة. ووصف الشيخ مكي حمر بقوله (حمر فروة نمر)؛ أي أنهم قبائل متنوعة مثل جلد النمر الذي يتكون من أكثر من لون. ويضيف أن كل من تزوج من حمر وعاش وسطهم فهو حمري، هذه مقولة لا تقبل الجدل ولا تحتمل التأويل. إن هذه النظرة الثاقبة التي أراد بها مكي تقوية وشائج الأخوة وتمتين أواصر الوحدة بين أهله ومن تزوج منهم واستقر معهم؛ تنم عن رجاحة عقله وقدرته كزعيم أن يزيح عن أفراد قبيلته التعصب القبلي الممقوت الذي بدأ البعض اليوم، وللأسف الشديد، يروِّج له لأغراض دنيئة، فهلا تنبهنا لهذا وعملنا جاهدين على معالجة داء العصبية القبلية في السودان ومنعه من أن يستشري في دماء حمر، بالرغم من أن مدينة النهود لم تتفشَّ فيها هذه الظاهرة بصورة مخيفة. إن المدينة في الواقع كانت ومازالت تضرب أروع الأمثلة في التعايش السلمي بين جميع سكانها، فهي المدينة التي إختارت (محمد أحمد ابورنات) عمدةً لها بالرغم من أنَه من شمال السودان من قرية (أبورنات) التي ينحدر أهلها من أصولٍ شايقية، وكانت له محكمة شعبية ذائعة الصيت في قلب مدينة النهود، ووجد تعاوناً تاماً من زعماء قبائل حمر . وبعد وفاته خلفه أبناؤه على رئاسة المحكمة وكان آخرهم العمدة ميرغني (عليه رحمة الله). { وكان لزعيم قبائل الحمر الشيخ (منعم منصور) محكمة أخرى في المدينة أدارها خلال نصف قرن من الزمان تقريباً بأسلوب متفرد، وقد اثنى على ذلك (السير جيمس روبرتسون) مفتش مركز النهود في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، والذي تبوأ منصب السكرتير الإداري في السودان فيما بعد، حيث قال عن الشيخ منعم : ( ... ما كان للعدل أن يسود ولا للأمن أن يستتب لولا أن توفر لقيادة قبيلة حمر رجل أقرب للملائكة منه إلى البشر) . ثم خلفه بعد وفاته في العام 1979م ابنه منصور الذي توفي في العام 1985م ، وخلفه أخوه (عبد القادر منعم) زعيم قبائل حمر الحالي (الرجل المثقف، الشاعر الفذ، خريج مدرسة خور طقت الثانوية) والذي سار على نهج والده ، وهو يتسم بروح الأبوة والقدرة على إدارة شؤون القبيلة بكفاءة عالية . وفي العام 1992م ، وتأكيداً لما ذهبنا إليه، ُلُقِّب بأمير أمراء قبائل السودان ، وظل قائداً إدارياً فذاً لما يقارب العقدين ونصف العقد من الزمان (أي منذ العام 1985م وحتى تاريخ اليوم) ، رغم العواصف العاتية التي تعرض لها والتي كانت بفعل بعض أبناء جلدته الذين حاولوا أن يتمردوا عليه. وقد اتخذ الأمير عبد القادر من النهود مقراً له ، وبوجوده فيها نجده يمثل امتداداً لسلفه . { وللنهود خصوصية تاريخية تتمثل في الدور الرائد الذي لعبته في مختلف الحقب التاريخة بفضل قياداتها الإدارية الأهلية منذ التركية ، فالمهدية ، والحكم الثنائي ، مروراً بالعهد الوطني . فعلى سبيل المثال تصدى أهل النهود للغزاة الأتراك وساندوا ودعموا المهدويين وهم يقاومون المعتدين الذين أذاقوا الشعب السوداني الويل والعذاب وعملوا على نهب ثرواته . ودورهم في العهد الوطني لا يخفى على أحد ، فيكفيهم فخراً أنَ النهود احتضنت أول نادٍ ثقافي اجتماعي تأسس في السودان في العام 1917م ويسمى (نادي السلام) ، وقد سبق هذا النادي نادي الخريجين بأم درمان الذي تأسس هو الآخر في العام 1918م. وكان نادي السلام حينها مسرحاً للنشاط السياسي الخفي وإن بدأ ثقافياً، حيث كان له دوره الرائد في الحركة الوطنية السودانية التي أدت إلى استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م. ومهما يكن من أمر، فإن النهود مدينة آسرة ، أهلها بسطاء، رغم أنها غنية بمورادها الاقتصادية. واجتماعياً يمثل أهلها نموذجاً متفرداً في الترابط الاجتماعي في الأتراح والأفراح قلما يوجد مثيل له في أية مدينة سودانية أخرى .فهي المدينة الثانية مباشرة ـ من جميع النواحي ـ بعد مدينة الأبيض (عروس الرمال)، ورغم أنَها قدمت الكثير للسودان غير أن نصيبها من التنمية والتطور كان دوماً ضئيلاً على مر الحقب التاريخية . فلم تحظَ بطريق معبد يربطها بتوأمتها مدينة الأبيض إلا مؤخراً. وقد وصف البروفسير (صالح بيلو) الطريق قبل تعبيده بأنه (طريق قاطعُ للأرحام) فماذا ياترى يقول البروف الآن حول الطريق؟ .وبمحاولة استذكار الماضي والنظر بتروٍ إلى الحاضر نتطلع إلى مستقبل منظور علًه يحقق بعضاً من المرغوب والمطلوب لأهل النهود الكرماء البسطاء في ظل واقعِ معقدٍ تعيشه الدولة السودانية اليوم. ولأن النهود دائماً حاضرة في الوجدان وباقيةً في القلب والذاكرة، دعونا نطرح بعض الأسئلة المهمة لنجيب عنها في ثنايا هذا المقال. من أين جاء اسم النهود؟ ولماذا نحن نردد دائماً أن أول نادٍ في السودان هو نادي الخريجين في أم درمان؟ فعدم تبيان أن نادي السلام في النهود هو أول نادٍ تأسس في السودان أمرٌ يسترعي الانتباه وينم ربما - عن سوء قصد من رواد المدرسة التأريخية السودانية. ودعونا نتساءل أيضاً: ماهو دور الإدارة الأهلية في المدينة وأريافها لإدامة التعايش السلمي بين أهلها؟ وكيف يمكن تحقيق إدارة تنمية خلاقة في النهود؟ وماهي الرؤية المستقبلية للمدينة في ظل النظام الفيدرالي الحالي الذي قضى بتذويب الجزء الشمالي من ولاية غرب كردفان في ولاية شمال كردفان، وهل هذا هو الوضع الطبيعي لشمال كردفان أم أن هناك خياراً آخر؟. النهود .. أبوبردي .. { كانت مدينة النهود في النصف الأول من القرن التاسع عشر تسمى (أبو بردي) ويعود الاسم لشخص يسمى أبو بردي كان يعمل في خدمة الناظر حمد فتين زعيم فرع الدقاقيم (أحد فروع قبائل حمر) . ولقد جاء أبو بردي بحثاً عن الماء في موقع النهود الحالي وبالتحديد على بعد أمتار شمال شرق سينما النهود الحالية، حيث تمكن من الحصول على الماء بعد حفره لبئر في هذا المكان. وبشَر زعيمه بذلك ومن ثم بدأ حمر يتجمعون حول هذه البئر واستقروا بالقرب منها. ومن ثم بدأ الناس ينزحون إلى منطقة (أبوبردي) . وفي تطور لاحق سُمِّيت المنطقة بالنهود ، حيث كان الناس ينعتونها بهذا الاسم، ذلك لأنَ هنالك جبل يقع شرق المدينة .وصارت تحمل هذا الاسم منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا. وكانت النهود عبارة عن بركة مياه كبيرة تكثر فيها الغابات والحيوانات المفترسة. وكان الإسماعيلية اصحاب الطريق الصوفية السودانية الوحيدة الخالصة من المعمرين الأوائل لمدينة النهود في موقعها القديم في منطقة (أورقد فايق) التي تقع غرب المدينة الحالية، والتي أحاط بها الحمر من كل جانب. نادي السلام الثقافي الاجتماعي .. كانت توجد بمدينة النهود غرفة مخصصة للقاء مأمور النهود المصري للتعرف على التجار بغرض تسهيل شؤونهم التجارية. وقد َسمى التجار مكان التلاقي (بغرفة السلام). وكان رئيس التجار يدعى حسين شلبي (من ام درمان). لقد اتفق كبار التجار وكبار الموظفين وبعض الأجانب من السوريين على تسمية تلك الغرفة (نادي) أسوة بأندية مصر. وتم افتتاح نادي السلام في موقعه الحالي في العام 1917م، وأول من تقلد منصب رئيس النادي هو سر التجار حسين شلبي. وقد سمى أعضاء نادي السلام ناديهم ببرلمان النهود؛ فكانت تناقش فيه مشكلة المياه، ومشكلة التعليم وغيرها من المشكلات. والحق يقال فقد كان للنادي دور فعاَل . فمثلاً المدرسة الوسطى الأميرية بالنهود جاءت فكرة إنشائها من داخل النادي. وكذلك كان (مال) الوفد الذي سافر إلى مصر في 22 مارس 1953 بغرض تقرير مصير السودان قد ساهم فيه نادي السلام بقدر كبير. وكانت المساهمات تأتي من كافة شرائح المجتمع في النهود. وجاء أحمد خير المحامي صاحب (كفاح جيل) مرتين إلى النهود للتنسيق من أجل الكفاح الوطني ، وكان نادي السلام وما زال ملتقىً لأهل الفن والثقافة، وشهد منذ انشائه قيام العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية. وُقدَمت في النادي أروع المسرحيات. وشهد هذا النادي أيضاً - بزوغ نجم الشاعر الكبير ابن النهود (الحسين الحسن) وشقيقه الدكتور (تاج السر الحسن) الذي كتب في الخمسينيات من القرن المنصرم في مدينة النهود رائعته (آسيا وإفريقيا) التي ترجمت إلى عدد من اللغات الأجنبية. وكتب الشاعر الفحل محمد سعيد العباسي قصيدة عن النهود وفاءً لصديقه (خلف الله خالد) الذي كان يعمل بالنهود . وأُسس في مدينة النهود ثاني معهد علمي على مستوى السودان، بعد المعهد العلمي بأمدرمان، وكان منارة للإشعاع الديني والأدبي. وقد خرًج هذا المعهد لفيفًا من العلماء الذين أكملوا دراساتهم الاسلامية في الأزهر الشريف. الإدارة الأهلية بين الماضي والحاضر .. قبائل (حمر) اسم له بريق خاص في حاضرتهم مدينة النهود التي تحلَقوا حولها منذ العهد التركي المصري في السودان كما أسلفنا. وإن تحدثنا عن التعايش السلمي الذي تعيشه مدينة النهود منذ سحيق الزمان فإن وراءه عمل وفلسفة ارتكزت عليها الإدارة الأهلية لتجعل الصورة الماثلة الآن تزينها روح التآخي والسماحة والطيبة. فالشيخ(عبد الرحيم أبو دقل) النموذج المتفرد في الشجاعة والشهامة، والشيخ محمد أبو جلوف، والشيخ منعم منصور ـ الذي اختير في العام 1928م ناظر عموم قبائل (حمر) بعد أن أتي به من قرية (أبو جفالة) بريفي أبي زبد التي آثرت والدته أن تسكن فيها وتبتعد به بعيداً عن ضوء وبريق الحكم بعد مقتل والده ، إلا أنَ الأقدار حتمت عليه أن يتسلم قيادة القبيلة منذ تاريخ تعيينه حتى العام 1979م حيث فارقت الروح الجسد. ثم جاء ابناه منصور وعبد القادر على التوالي كما أوضحنا. وكل هؤلاء الزعماء وضعوا بصمات واضحة في خارطة (حمر) بمختلف صنوفها وقدَموا إسهامات قيمة على الصعيدين المحلي والقومي فهم جميعاً جديرون بالاحترام . { إن سكان النهود كما أسلفنا - ينحدرون من قبائل شتى تعيش في وئام وسلام ، وهنا يأتي دور الإدارة الأهلية لإدامة هذا التعايش السلمي في المدينة من خلال المؤازة التي تقدمها دوماً للإدارة المحلية في النهود وأريافها ، فلتمضِ الإدارة الأهلية على هذا النهج باعتبار أنها الذراع الأيمن الذي يقوِّي الحكم المحلي. الرؤى المستقبيلة لمدينة النهود .. تنمية وازدهار { إن مدينة النهود أُهملت كثيراً من قبل الحكومات السابقة فلم تشهد أي تطور يذكر على مر الحقب السياسية في السودان. وعندما اتخذ السودان النظام الفيدرالي كاسلوب للحكم، ووفقاً لذلك قُسَمت كردفان الكبرى إلى ثلاث ولايات، اختيرت الفولة عاصمة لولاية غرب كردفان بدلاً من مدينة النهود، وبالطبع فإن هذا القرار- في تقديرنا- جانبه الصواب كثيراً. فليس هنالك أدنى مقارنة بين النهود والفولة. ورغم أن المدينة شهدت قيام بعض المشاريع المهمة كالكهرباء وغيرها، إلا أنَ طريق النهود الأبيض الذي اكتمل تعبيده، رغم التأخير الذي صاحب اكتماله، يمثل نقطة محورية ستحدث نقلة نوعية كبيرة في نهضة المدينة وتطورها.{ والنهود ينبغي أن تبقى ضمن ولاية شمال كردفان لأسباب عديدة لا نستطيع أن نعددها في هذا المقال، ولكننا نعد القارئ الكريم بتناول هذا الموضوع في حلقات متتابعة قريباً إن شاء الله . وتحتاج مدينة النهود إلى حل مشكلة المياه فيها حلاً جذرياً وبأسرع مايمكن، كما أنَ التعليم العام يحتاج إلى مراجعة شاملة. ونتطلع كذلك لإقامة العديد من المشروعات الاقتصادية خاصة أن المدينة تتوفر فيها المواد الخام . كلَ ذلك من أجل إحداث نهضة تنموية شاملة لتقليل حدة الفقر وسط السكان. وأخيراً تبقى النهود مدينة بنكهة خاصة.

0 التعليقات

إرسال تعليق